شفاء العليل شرح منار السبيل
المطلب الأول: في طرق الرواية عنه وتحقيق صحتها
اشتهر أن أحمد اسم> رحمه الله لم يكتب بنفسه شيئا من الفقه ولا الأجوبة عن المسائل التي تقع له، وقد ذكر ابن القيم اسم> -رحمه الله- في الإعلام شدة كراهته لذلك، فقال: وكان -رضي الله عنه- شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه إلخ، وإنما حمله على الامتناع من كتابة المسائل الفقهية وما يذهب إليه الخوف من الخطأ في الجواب لسعة الأدلة، ونقص جنس الإنسان، أو الخوف من اعتماد التلاميذ على فتواه، وتركهم البحث والتحصيل، والأخذ بالدليل، أو ترك ذلك تواضعا منه، وتحقيرا لشأن نفسه، كعادة العارفين بالله تعالى، فعلم الله حسن نيته وقصده، فألهم تلامذته ومن بعدهم أن اعتنوا بتلك الأجوبة والاختيارات، فدونوها وأثبتوا ما ظفروا به عنه مما يتعلق بالأحكام والآداب والعقائد، والأصول والفروع وغيرها، وقد ذكر القاضي أبو الحسين اسم> من تلامذته الذين رووا عنه خمسمائة وأحد وسبعين رجلا، كما في الجزء الأول من طبقات الحنابلة، ومنهم الكثير من مشايخه وأقرانه، وقد اشترك الجميع في الأخذ عنه، ومنهم من اختص برواية المسائل الفقهية.
كما سرد بعضهم أبو الحسين اسم> في طبقات الحنابلة فقال: وأما نقلة الفقه عن إمامنا أحمد اسم> فهم أعيان البلدان، وأئمة الزمان، منهم ابناه صالح اسم> و عبد الله اسم> وابن عمه حنبل اسم> و إسحاق بن منصور الكوسج اسم> و أبو داود السجستاني اسم> و إبراهيم الحربي اسم> و أبو بكر الأثرم اسم> و أبو بكر المروذي اسم> و عبد الملك الميموني اسم> و مهنا الشامي اسم> و حرب الكرماني اسم> و أبو زرعة اسم> و أبو حاتم الرازيان اسم> و أبو زرعة الدمشقي اسم> و مثنى بن جامع الأنباري اسم> و أبو طالب المشكاني اسم> و الحسن بن ثواب اسم> و ابن مشيش اسم> و ابن بدينا الموصلي اسم> و أحمد بن قاسم اسم> و القاضي الرقي اسم> و أحمد بن أحرم المزني اسم> و علي بن سعيد النسوي اسم> و أبو الصقر اسم> و البرزاطي والبغوي اسم> و الشالنجي اسم> و عبد الرحمن المتطبب اسم> و أحمد بن الحسن الترمذي اسم> و أحمد بن أبي عبدة اسم> و أحمد بن نصر الخفاف اسم> و أحمد بن واصل المقري اسم> و أحمد بن هشام الأنطاكي اسم> و أحمد بن يحيى الحلواني اسم> و أحمد بن محمد الصائغ اسم> و أحمد بن محمد بن صدقة اسم> وهم مائة ونيّف وعشرون نفسا.
وقد سردهم المرداوي اسم> في الإنصاف ورتبهم على الحروف فبلغوا مائة وواحدا وثلاثين نفسا، ثم ذكر المكثرين فبلغوا ثلاثة وثلاثين شخصا، وقد طبع بعض مؤلفاتهم، كمسائل الإمام أحمد اسم> لأبي داود اسم> صاحب السنن، ومسائل الإمام أحمد اسم> رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ اسم> ومسائل الإمام أحمد اسم> رواية ابنه عبد الله اسم> ورواية صالح بن أحمد اسم> وغيرها، ويوجد مسائل آخرين لا تزال مخطوطة.
ثم إن تلك المسائل والمؤلفات المتفرقة قد جمعت وألفت، فهناك بعض تلامذة أولئك الرواة أو من بعدهم قد تتبعوا رواياتهم ومؤلفاتهم، وحرصوا على نقلها مشافهة أو كتابة، وبذلوا الجهد الكبير في جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض، وترتيبها وتنسيقها، وكان أشهر من جمعها واعتنى بها أبو بكر الخلال اسم> ؛ فقد صرف عنايته إلى جمع علوم هذا الإمام -رحمه الله- وتعب في ذلك ، وقطع المراحل والفيافي لأجلها، وكتبها عالية ونازلة، وصنفها كتبا وقسمها إلى مواضيع، وبلغ كتابه الكبير المسمى بالجامع نحو مائتي جزء في عشرين سفرا كما ذكره ابن الجوزي اسم> في المناقب و ابن القيم اسم> في الإعلام وغيرهما، ومع هذا التتبع والاستقصاء فقد فاته الشيء الكثير من فتاوى هذا الإمام ومسائله، والأخبار المنقولة عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> في مجموع الفتاوى وهؤلاء الذين ذكروا هذا كالخرقي اسم> وغيره بلغهم بعض نصوص أحمد اسم> في هذه المسألة -يعني مسألة حضانة الصبي- ولم تبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد اسم> كثير منتشر جدا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ العلم عنه، و أبو بكر الخلال اسم> قد طاف البلاد، وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه... فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس. ا هـ.
ثم تبعة تلميذه الخاص أبو بكر عبد العزيز اسم> المشهور بغلام الخلال، فكتب في المذهب الحنبلي عدة مؤلفات، وجمع ما وقف عليه من الروايات ورتبها، ورجح بعضها على بعض، وجمع بين المختلفات، كما يتضح من اختياراته والنقول الكثيرة عنه، ثم جاء بعده تلميذه شيخ المذهب أبو عبد الله الحسن بن حامد اسم> الذي بذل جهدا كبيرا في نشر أقوال هذا الإمام وجمع متفرقها، والاستقصاء في تتبع ما في الإمكان الحصول عليه من الروايات والحكايات والمؤلفات في مسائل أحمد اسم> وفتاواه، ونقلها بالأسانيد للتأكد من صحتها، وقد ألف في ذلك كتابا كبيرا سماه بالجامع في المذهب، بلغ نحو أربعمائة جزء، نقل ما فيه عن مشايخه الثقات، حتى اتصل إسناده بمؤلفي تلك المسائل من تلامذة الإمام أحمد اسم> الذين دونوا ما سمعوا عنه، وقد أحببت أن أنقل أسانيده التي ذكرها في أول كتابه المذكور، والتي نقل بها تلك المؤلفات عن أربابها الذين شافهوا بها الإمام أحمد اسم> وقد ذكرها أبو الحسين الفراء اسم> في طبقات الحنابلة في ترجمة ابن حامد اسم> رقم (638) قال -رحمه الله- اعلم أن الذي يشتمل عليه كتابنا هذا من الكتب والروايات المأخوذة من حيث نقل الحديث والسماع منها كتاب الأثرم، و صالح اسم> و عبد الله اسم> و ابن منصور اسم> و ابن إبراهيم اسم> و أبي داود اسم> و الميموني اسم> و المروذي اسم> و أبي الحارث اسم> و أبي طالب اسم> و حنبل اسم> و عبد الله بن سعيد اسم> و مهنا اسم> و أبي النضر اسم> و أبي الصقر اسم> و يعقوب بن بختان اسم> و إبراهيم بن هانئ اسم> و محمد بن علي اسم> و جعفر بن محمد النسائي اسم> و عبد الكريم بن الهيثم القطان اسم> و أحمد بن القاسم اسم> و زكريا بن الفرج اسم> و محمد بن الحكم اسم> وابنه بكر اسم> و حرب الكرماني اسم> و يوسف بن موسى اسم> و أحمد بن أصرم المري اسم> و محمد بن يحيى الكحال اسم> و ابن مشيش اسم> و أبي زرعة اسم> و مسلم بن الحجاج اسم> و المشكاني اسم> و إبراهيم الحربي اسم> و أحمد بن هشام اسم> وكتاب الخرقي اسم>
فأما كتاب الأثرم اسم> فقرأته على أحمد بن سالم الختلي اسم> قال: حدثنا أبو حفص عمر الشرابي اسم> قال: حدثنا الأثرم اسم> عن أبي عبد الله اسم> و عبد العزيز بن جعفر عن أحمد بن محمد بن خلف اسم> القاضي، عن الأثرم اسم> عنه.
وأما عبد الله اسم> فأخبرنا ابن مالك اسم> و ابن الصواف اسم> في الإجازة عنه، وأخبرنا ابن جعفر اسم> عن محمد بن عبد الله بن العباس السواق اسم> عن عبد الله اسم>
وأما صالح اسم> فعن عبد العزيز اسم> عن أبي المغيرة الجوهري اسم> عن صالح اسم>
وأما ابن منصور اسم> فأخبرنا ابن سالم اسم> قال: حدثنا الطيالسي اسم> عن ابن منصور اسم> عنه، وأما عبد العزيز اسم> أيضا: فعن الطيالسي اسم> عنه. وأما أبو داود اسم> فأخبرنا ابن حيوية الخزاز اسم> عن أبي مخلد اسم> عنه: و عبد العزيز بن جعفر اسم> عن القنطري اسم> عن أبي داود اسم> عنه، وأما أبو الحارث اسم> فعن عبد العزيز اسم> قال: حدثنا الخلال اسم> عن الراشدي اسم> عن أبي الحارث اسم> عنه، ثم ذكر أسانيده إلى أولئك الرواة عن أحمد اسم> كلهم واحدا بعد واحد إلى أن قال: وأما كتاب الخرقي اسم> فأخبرناه أبو بكر الحسن بن يحيى بن قيس المقري اسم> عنه.
قال أبو عبد الله بن حامد اسم> اعلم -عصمنا الله وإياك من كل زلل- أن الناقلين عن أبي عبد الله اسم> -رضي الله عنه- ممن سميناهم وغيرهم، أثبات فيما نقلوه، وأمناء فيما دونوه، وواجب تقبل كل ما نقلوه، وإعطاء كل رواية حظها على موجبها، ولا تعل رواية وإن انفردت، ولا تنفى عنه وإن عزبت، ولا ينسب إليه في مسألة رجوع إلا ما وجد ذلك عنه نصا بالصريح، وإن نقل: كنت أقول به وتركناه وإن عري عن حد الصريح في الترك والرجوع أقر على موجبه، واعتبر حال الدليل فيه، لاعتقاده بمثابة ما اشتهر من روايته، وقد رأيت بعض من يزعم أنه منتسب إلى الفقه يليّن القول لا كتاب إسحاق بن منصور اسم> ويقول: إنه يقال: إن أبا عبد الله اسم> رجع عنه، وهذا قول من لا ثقة له بالمذهب؛ إذ لا أعلم أن أحدا من أصحابنا قال بما ذكره ولا أشار إليه، وكتاب ابن منصور اسم> أصل، بداية حالة تطابق نهاية شأنه، إذ هو في بدايته سؤالات محفوظة، ونهايته أنه عرض على أبي عبد الله اسم> فاضطرب؛ لأنه لم يكن يقدر أنه لما يسأله عنه مدوّن، فما أنكر عليه من ذلك حرفا، ولا رد عليه من جواباته جوابا، بل أقر على ما نقله، أو وصف ما رسمه، واشتهر في حياة أبي عبد الله اسم> ذلك بين أصحابه، فاتخذه الناس أصلا إلى آخر أوانه إلخ.
واختلف أصحابه في كتبه؛ أيقال: فيها قديم لا حكم له؟ فقال الخلال في كتاب العقيقة: إن ما رواه مهنا، قال: سألت أبا عبد الله اسم> عن رجل يختن ابنه لسبعة أيام، فكرهه، وقال: هذا فعل اليهود، وقال لي أحمد بن حنبل اسم> كان الحسن اسم> يكره أن يختن الرجل ابنه لسبعة أيام. إن ذلك قديم، والعمل على ما رواه حنبل اسم> وغيره، ولفظ حنبل اسم> أن أبا عبد الله اسم> قال: إن ختن يوم السابع فلا بأس، وإنما كرهه الحسن اسم> لئلا يتشبه باليهود، وليس في هذا شيء.
وقال عبد العزيز بن جعفر اسم> في مسألتين، إحداهما من كتاب ابن منصور اسم> والأخرى في كتاب المروذي اسم> ما يطابق ما قاله الخلال اسم> فقال عبد العزيز اسم> في الأيمان في الحدود وما رواه ابن منصور اسم> قديم، والعمل على ما رواه حرب اسم> و صالح اسم> لا يمين في شيء من الحدود، وأن ما رواه المروذي اسم> في القائل: يا لوطي أنه يسأل عما أراده، فإن قال: أردت أنك من قوم لوط، لا حد، قول قديم، والعمل ما رواه مهنا وغيره، أن عليه الحد، وهذا القول متميز أن يكون كتاب الكوسج ومسائله، وكتاب مهنا ومسائله، وكتاب المروذي اسم> وما جاء به، تترك لأنها قديمة، هذا عندي لا ينبغي أن يعول عليه، وإثباتها قديما وجديدا، لا يكون من حيث الاستدلال لضعف مسألته في كتابه عند طائفة لعلها قوية عند غيرها، ومع ذلك فما قدم وحدث في هذا الباب سواء، إذ لا مزية لما حدث على ما قدم، إلا بمقارنة صريح، فيترك له ما كان من قبله قديما، ومهما لم يوجد ذلك بطل أن يكون القديم دون الجديد.
وليست جوابات إمامنا في الأزمنة والأعصار إلا بمثابة ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الآثار لا يسقط نهايتها موجبات بدايتها إلا بأمر صريح بالنسخ أو التخفيف، فإذا عدم ذلك كان على موجبات دعايته، فكذلك في جواباته، إذ العلماء قد أنكروا على أصحاب الشافعي اسم> من حيث الجديد والعتيق، وأنه إذا ثبت القول فلا يرد إلا باليقين، فكذلك في جوابات إمامنا، ورأيت طائفة من أصحابنا في مسائل الفروع والأصول يسلكون الوقف، وأنه لا يفتى بشيء إلا ما سبق به وإلا وجب السكوت في ذلك، وطائفة ثانية فصلت فقالت: ما كان من في لأصول فإنه لا يجيب في شيء إلا ما كان القول من الأئمة فيه سابقا، وعملوا فيه على ما نقله أبو طالب اسم> عن أبي عبد الله اسم> في الإيمان، أن من قال: مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فقد ابتدع، وأنه يهجر حتى يرجع- أن ذلك وعيد على مخالفة أمر لا يسع الجواب فيهما، وإن كان من الفروع في الفقه، فإنه يسع الجواب، وإن كان به منفردا، والأشبه عندي أن سائر الفقه والأصول سواء، وأن له إيقاع الجواب عند الاضطرار ونزول الحادثة أن يجتهد فيما يوجبه الدليل، ويفتي بذلك إن كان بالقول منفردا، كما أن إمامنا صار في الأصول إلى ظاهر التنزيل، وقد بيّن إمامنا أحمد في القرآن أنه لا يشك ولا يقف، وأن القائلين بالحكاية والمحكي، واللفظ والملفوظ، والتلاوة والمتلو، زنادقة. ا هـ.
هذا آخر كلام ابن حامد اسم> نقلته بتمامه مع طوله، ليقف القارئ على احتياط أولئك العلماء وتثبتهم في النقل، وعلى ثقتهم بأولئك المشايخ الذين دوّنوا تلك المسائل، وتأكدهم من صحتها، وعدم تطرق الشك إلى شيء من محتوياتها، وأته لا فرق بين متقدمها ومتأخرها، والله الموفق.
مسألة>